5/31/2012

رأي | بالأمس تزاحموا على أبواب الدكتاتوريّة واليوم يتزاحمون على جثتها !

رأي | بالأمس تزاحموا على أبواب الدكتاتوريّة واليوم يتزاحمون على جثتها !:
نصر الدين السولمي
المشهد التونسي – مقال رأي – نصر الدين السويلمي

لا يختلف اثنان في أنّ الدكتاتوريّة قبيح شكلها، دامٍ فعلها، وخيمة عواقبها… وإذا استثنينا الانتهازيّين ومن على شاكلتهم، لن نجد على وجه البسيطة من يحسّن مذهب هذه الجائحة التي سامت البشريّة صنوفا من العذاب لآلاف السنين، وأتلفت الإنسان كمنتوج بشري، كما أتلفت الكثير من إنتاجه وإبداعاته وأحلامه. ولو تحرّكت آلات الكشف في تونس ونحّت التعتيم وتسلّحت بالنزاهة والمصداقيّة وقلّبت صفحات التاريخ القريب منه والبعيد لكشفت لنا صنوفا من الكوارث قد تعجز مدرسة الخيال العلمي عن تصويرها. فالجرائم المنظمة التي تمّت تحت رعاية الدكتاتوريّة بطبعتيها الدستوريّة ثم التجمعيّة والطرابلسيّة مناصفة، لم تكن تعترف بحدود دنيا ولا قصوى لجرعات الألم التي تسقيها للشعب، وبدرجة أكبر لخصومها ومناوئيها. إنّما كان خيارها مفتوحا من الأذى الى الردى، فلحم الشعب على ذمّة الزعيم والصوت قد يخفّ وقد تهدأ المقصلة حين يكون القصر آمنا أمنا مطلقا، وحين يكون الزعيم فوق النقد بتصريحه وتلميحه.
في حضرة الدكتاتور لم يكن أحد يستريح. فالطابور مطالب بمضاعفة أدائه وتقديم أصناف مجددة من الولاء. والصامتون عليهم أن يقطعوا مع جنحة الصمت وينخرطوا في الركب. أمّا أصحاب جناية النقد فهم مؤنة يوميّة لمراكز الإيقاف والسجون. ولا يمكن لدكتاتوريّة ما أن تشبع أو تقنع أبدا، لأن التجارب أثبتت أنّ التسلّط لا يفقؤه إلا الموت وهذا ما حدث في بلادنا حيث التهمت الأَمَة في فجر السابع من نوفمبر ربّتها، وانحنت ديكتاتوريّة لتصعد أخرى، حتى إذا غضب الأحرار وضعوا حدّا للتداول المقيت على رقاب النّاس وأرزاقهم.عندما نخرت جرعات الفساد المركّزة الدكتاتوريّة في تونس قرر الثوّار قرارهم ثم فعلوها وأجهزوا عليها، وحين اقترب الشعب من جثتها لم يكن يُتوقع أنّ ثمّة ما هو أقبح من هذا الوباء، فنتوؤة الخبث بارزة من كل جوانبه والفساد “ينز” من فوق لتحت، ولما ذهب فضول الناس وانفضّوا من حول الجثة المتحللة فوجئوا بأجناس أخرى تتسرب خفية، ثم على استحياء، ثم علنا، وتطوف بجثة الدكتاتوريّة، تجسّها، تتمسّح بها، ثم كان أن واظب بعض هؤلاء على النفخ فيها يستجدونها يستحلفونها بأن تنهض لنجدتهم.
بعد ثورة 17 دسمبر اكتشفنا أنّ الدكتاتوريّة سيئة. ولكن هناك الأسوء، حيث أنّها كيان مجرم مستقل بذاته يعيش على عائدات أجرامه الخاصّة، وأنّ المتمسحين بها طفيليّون يبحثون عن أمومة في حضن كيان أتلفه الموت وأقبرته الثورة. ولعلّ الدكتاتوريّة المندحرة حديثا من تونس ناشها بعض السرور حين اكتشفت أنّها ليست قمّة التدنّي، لأنّ تحتها أولئك الذين يطلبون ودّها ويتنازعون إرثها، وهي فوق هذا دكتاتوريّة عاشت تشرب الدماء من منبعها. أمّا المتحلقون حولها فهم يتزاحمون على دماء مكرّرة مجترّة، فهي دكتاتوريّة سمينة مكتنزة وتلك معتلّة هزيلة. دكتاتورية بن علي بمثابة خضراء الدّمن ودكتاتوريتهم المنشودة صفراء الدّمن.
في تونس أقوام يصارعون جثة يسيل صديدها عليهم، يحاولون إنعاشها يركّزون لها متكآت يحفّونها بالوسائد ويتخذون لها السواري لتُقيمها وتسندها. عبثا يحاولون إنهاضها ليتمترسوا خلفها ويتخذونها ساترا “يحميهم” من شعبهم ويقيهم من حرّ الحقيقة… فيا أنتم  لقد اتخذتم قبلة تغطّ في موتها “انتهوا قبل أن تنتهوا”، ويمّموا نحو شعبكم وتودّدوا وتقرّبوا وتجمّلوا له فالسّياسة متحرّكة غير ثابتة. والذي لم يجد له موطئ قدم اليوم في مؤسسات الشعب قد يضع كلتا قدميه في الغد. والشعب جاهز لاستقبال الأصلح والأحسن، ولن يستحِ من إنهاء صلاحيّة الترويكا بنهضتها ومؤتمرها وتكتّلها واستقبال اعتمادات أخرى إذا ما كانت الأفضل وأثبتت جدارتها بثقته، ويمّمت شطره، واعتمدت على الولاء له، وقطعت مع مغازلة الجثث.
مازال الشعب ينتظر من نخبته السّياسيّة أن تمارس السّياسة، لأنّنا إلى اليوم لم نشاهد أدنى تجانس بين الأسماء والمسمّيات. فالكثير من الذين تحصّلوا على اعتمادات أحزاب هم اليوم يمارسون كل شيء إلا العمل الحزبي، ويتوجهون بخطابهم وفعلهم إلى كل شيء ما عدا شعبهم، لأنّه عندما حسم هذا الشعب المقدام أمره مع التجمّع، ثم استدعى الطيف السّياسي إلى محطة أكتوبر، فقدّم الترويكا وأخّر المعارضة على أمل أن تحتك به أكثر، وتتودّد إليه لتقف على أسباب عزوفه عنها، لم تذهب المعارضة إلى الشعب ولم ترسل وفودها إلى العمق لتستجلي سبب حصادها الهزيل، إنّما، وأمام ذهول الجميع، ذهبت قدما إلى التجمّع وأرسلت وفودها في العمق لتبحث عن المتردّية والنطيحة  من بقايا الشُعَب والجامعات ولجان الأحياء. فأيّ جرم أكبر من أن يُسقط الشعب جهاز القمع فتنحني المعارضة لالتقاطه؟ وأيّ مصيبة أشدّ من أن يفكك الشعب منظومة الاستبداد فتهرع المعارضة لتجميعها من جديد؟ وأيّ انحطاط أشدّ من أن تعمد بعض الأطراف المفلسة إلى تسفيه خيار الشعب وتبييض الوجه الأسود للطاغية المندحر عبر سبر أرآء “مفتعلة”؟ وأيّ نازلة أثقل من أن تصبح وسائل الإعلام دكاكين توزع صكوك الغفران على فلول الدكتاتور، يدخل أحدهم من الباب الخلفي لوسيلة إعلامية، يمرّ عبر موائدهم المستديرة، ثم يخرج من البوابة الرئيسية كما ولدته أمه؟ أما الأشنع من كل ذلك هو هذا السعي الدؤوب، والجهد اليومي للمعارضة من أجل إسقاط حكومة السجناء وتنصيب حكومة السجّانين!
يبدو أنّ شعبنا كُتبت عليه المعاناة المتتابعة، وأُنيطت بعهدته المهام الجسّام. فبعد كل الذي قدمه اكتشف أنّها لم تحن بعد ساعة راحته، فهو مطالب بمضاعفة مجهوداته من أجل معالجة كتل الحقد والكره والترصد “المرشخة” في المقرّات التي تفوح منها رائحة المؤامرات، وتحويلها إلى أحزاب ومنظمّات ووسائل إعلام فعليّة. فالشعب الذي أنجز الثورة وكان نواتها وطليعتها وكان ذراعها الضاربة وعقلها المدبّر حين كانت أفضل النخب تمارس التقشّف النضالي وعطّلها أكثر من أيام فعلها، هذا الشعب عليه أن ينتشل بعض النخب السّياسيّة والفكريّة والإعلاميّة، من مستنقع الدسائس ويقودها إلى حيث مهامها الأصلية. فالأمر جلل لأنّنا أمام معارضة مصابة بعمى الألوان وأمام إعلام أحول يصوّب نحو الحكومة  فيصيب الدولة والشعب.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire