المشهد التونسي – مقال رأي – محمد بن جماعة*
قد يطلب من أمثالي واجب التحفظ (وأنا عضو جديد في حركة النهضة) عند الحديث عن مشاكل حزب المؤتمر، كون الخلاف داخليا، وكان أحد مناصري المؤتمر لَمَّح لذلك ولامني في مناسبات سابقة على ذلك في الفايسبوك. ولكن أرى أن الثورة أطلقت الحرية إلى أقصى مداها في التعليق على الشأن السياسي.. وإذا كان من حق السياسي والعضو الحزبي والناشط أن ينتقدوا أداء الأحزاب السياسية المخالفة لهم، فمن باب أولى أن يتحدثوا أيضا عن الأحزاب التي يرونها أقرب لأحزابهم أو رؤاهم السياسية..
فضلا عن ذلك، أرى أن ما يحصل حاليا في المؤتمر يستحق أن يكون “دراسة حالة” (Case Study) جيدة في المشهد السياسي الراهن. وأرجو أن تكتب مستقبلا دراسات يتم فيها تحليل التجربة السياسية للمؤتمر، كما حصل (وربما سيحصل مستقبلا) مع حركة النهضة..
شاهدت مؤخرا حوارات تلفزيونية لعدد من قادة حزب المؤتمر: محمد عبو وعماد الدايمي وعبد الرؤوف العيادي. ولكن الحوار الذي استوقفني أكثر هو حوار قناة التونسية مع المناضلة أم زياد، إحدى مؤسِّسات الحزب…
أرجو ألا تتهمني أم زياد بـ”المجاملة الكاذبة” أو “النفاق” حين أذكّر بتقديري الشديد لها منذ كانت تكتب في جريدة الرأي في الثمانينات.. بل أرى من الصدق والشجاعة الأدبية أن أذكّر بذلك بين يدي نقد شديد في هذا المقال. واحتمال أن يستعمل البعض المدح والتقدير أحيانا لتمرير القدح وتبريره لا يجعل من المدح أمرا مذموما في كل الحالات. كما لا يصح اتهام الجميع بالمجاملة الكاذبة والنفاق وإن كانوا من المخالفين، وأزعم أنني من هؤلاء الصادقين.. ولكن، سأقبل منها لو صنّفت كلامي هنا في فئة كلام “الميليشيات الرقمية”، هذا الوصف الذي استعملته في حوارها وأصبح صفة ملازمة لبعض الناشطين الإسلاميين على الفايسبوك.
ذكرت أم زياد، في حوارها على التونسية، أنها قابلت منصف المرزوقي بعد توليه رئاسة الجمهورية، وفوجئت في معرض كلامها معه برغبته في رؤية عماد الدايمي يقود الحزب في المرحلة الراهنة. وأوردت أم زياد في إطار التعريض بعماد الدايمي كونه صغير السن، وبأنه إسلامي “مندس” على المؤتمر.. واتهمت الإسلاميين بأنهم يعملون دائما على “اختراق” الأحزاب والجمعيات وأن حركة النهضة “لا تحترم الحدود بينها وبين الآخرين”…
عماد الدايمي.. الشاب الصغير والإسلامي المندس
استغربت أن تعيب أم زياد على عماد الدايمي كونه شابا صغير السن.. وكان يفترض أن يحسب هذا الأمر للمؤتمر.. فالثورة التونسية قامت بالشباب أساسا. وكان من الطبيعي أن يتصدر بعض الشباب من ذوي الكفاءة المشهد السياسي بعد الثورة.. ثم هل يعقل أن يوصف رجل في الأربعين بأنه صغير السن في معرض التقليل من كفاءته؟
أرجو أن تنظر أم زياد للأحزاب السياسية في أوروبا وأمريكا الشمالية وستجد أن كثيرا من السياسيين قادوا أحزابا بل حكومات ولمّا يبلغوا الأربعين.. فلعل أم زياد لا تعلم أن زعيم اليسار في اليونان والذي فاز في انتخابات الأسبوع الماضي شاب أصغر من الدايمي، دخل للحزب سنة 2006، وأصبح زعيما له بعد ثلاث سنوات فقط، سنة 2009، وعمره الآن 37 سنة.. وفي بريطانيا، شكل توني بلير الحكومة وعمره 42 سنة.. وفي كيبك أصبح أندريه بواكلار زعيما للحزب الكيبكي وسنّه 41 عاما (أي نفس عمر الدايمي). وتسلم روبار بوراسا رئاسة الحكومة في كيبك وعمره 36 سنة. وفي إسبانيا كان ليون ديجرال زعيما للمعارضة أيام الحرب العالمية الثانية وعمره 29 سنة.. ويمكن سرد أسماء كثيرة أخرى للدلالة على أن “عقدة صغر السن” يعاني منها فقط الشيوخ الذين يرون في الشباب قلة التجربة، ولا يصدّقون احتمال أن يكون فيهم من يملك كفاءات عالية ومقومات قيادية وكاريزمية قد تفوق من هم أكبر منه سنا..
أما الصفة الإسلامية، فيبدو أن أم زياد تراها “تهمة” يجب أن يحذر منها أي عضو في المؤتمر.. وأتساءل: أين كانت هذه السيدة من عضوية الدايمي في المؤتمر طوال السنوات الماضية طالما أن خلفيته الإسلامية أمر مشبوه، ويتعارض مع مبادئ الحزب؟ لماذا صمتت عن عضويته في الحزب، وهو من المؤسسين للحزب؟ ولماذا صمتت حين أصبح عضوا في المكتب السياسي للحزب مكلفا بالإعلام؟ ولماذا اكتشفت خطره بعد الثورة فقط؟ وهل كانت سترى فيه هذا الخطر لو بقي عضوا عاديا أو بقي قياديا صغيرا “لا يتجاوز حدوده”؟
أم زياد ذكرت في حوارها ما يوحي بأنها كانت غير راضية عن وجود شقين في مناضلي المؤتمر: “جماعة السجادة” و”جماعة …” (تورَّعَت عن التصريح بالصفة).. وهذا دليل على أن عقدتها ليست في الدايمي فقط، وإنما تتجاوزه لتشمل جميع من لديهم شبهة تدين في أعضاء الحزب.. وهو ما يكشف حجم الإغراق الإيديولوجي الرافض للإسلاميين في شخصية هذه المناضلة الحقوقية، ويطرح تساؤلات عن صدق دفاعها في الماضي عن حق الإسلاميين في العمل السياسي. وأخشى أن تكون في السابق من المتاجِرات بالدفاع عن الإسلاميين لتلميع الصورة وإظهار الذات بمظهر الحقوقي الديموقراطي، طالما أن الإسلاميين احتفظوا بمسافة عن دائرة الفعل الحقوقي والديموقراطي الذي تعمل هي فيه.
أم زياد اتهمت عماد الدايمي بـ”النفاق السياسي” حين مدحها في حواره التلفزيوني الأخير، وقالت “أكره التنوفيق.. وليبق مجاملاته لي عنده”.. ولكن أليس هذا ينطبق على كلامها أيضا؟ أليس سكوتها عن عضوية عماد الدايمي في المؤتمر، ودفاعها السابق عن حق الإسلاميين في العمل السياسي نوعا من النفاق والتجمل للرأي العام الداخلي والدولي؟
ثم ما العيب في كون السياسي المحترف يغير موقعه من حزب لآخر أثناء مسيرته السياسية؟ كثير من السياسيين في الغرب يتحولون من حزب محافظ لحزب ليبرالي، أو من حزب يساري إلى حزب يميني، ومن اشتراكي لحزب وسطي، إلخ.. وتوجد أمثلة كثيرة على ذلك في الديموقراطيات الغربية، دون أن يؤدي للشور بالتوجس أو الخوف من شبهة التآمر والاختراق.. وفي كيبك مثلا، كان جان شاريه (Jean Charest) زعيما للحزب التقدمي المحافظ الفيديرالي (Parti progressiste-conservateur fédéral) من 1993 إلى 1998، ثم استقال فجأة ليصبح زعيما للحزب الليبرالي في مقاطعة كيبك وهو يرأس حكومة كيبك منذ سنة 2003 بهذه الصفة..
وبالتالي ما العيب في كون الدايمي عضوا سابقا في النهضة، واستقال منذ سنة 1996 أو 1997 (على ما أذكر)، أي قبل تأسيس حزب المؤتمر سنة 2001 بما ينفي عنه شبهة الرغبة في الاختراق والاندساس؟
وما العيب في أن يصبح شخص متدين مثل عماد الدايمي، قياديا في حزب سياسي ديموقراطي أصر على التخلي عن البعد الإيديولوجي في مرجعيته وبرنامجه السياسيين؟ إلا أن يكون ذلك من قبيل ما وصفه القرآن: “وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ”.
موقف أم زياد يوحي بأنها ترى العلمانية على النموذج الفرنسي المعادي والمقصي للدين.. وهو يتناقض مع نمط العلمانية التي يدافع عنها حزب المؤتمر وقياداته الحالية أو المتخلية مثل المرزوقي والعيادي وعبو وغيرهم..
أخطبوط النهضة.. وعقلية الاختراق
حركة النهضة في عيون أم زياد حزب ديني لاديموقراطي، ولا يمكن الوثوق في وعوده الديموقراطية والتزاماته العلنية المكررة كحزب مدني يعمل في إطار القانون والشرعية. وهو حزب يقوم بممارسات سيئة وخطيرة منها السعي لاختراق الأحزاب والجمعيات المدنية والحقوقية، فضلا عن كونه يسعى للهيمنة على الواقع السياسي وفرض نفسه كحزب بديل عن التجمع المخلوع.. وهو حزب رجعي يريد الركوب على الثورة والديموقراطية للتأسيس لحكم ديني ثيوقراطي.
بعبارة أخرى، النهضة، في عيون أم زياد الديموقراطية جدا، “شيطان سياسي” في مقابل ملائكة سياسيين آخرين يملؤون الساحة السياسية في تونس وتتوفر فيهم خصال عالية من الطهر والعفاف في الممارسة السياسية واستعمال الأدوات الشريفة في الديموقراطية.. وهو ما جعلها تصرح بالدعوة لعزل النهضة سياسيا للحيلولة دون تشكيلها للحكومة رغم كونها الفائز الأكبر في انتخابات 23 أكتوبر.
نفس الفزاعة التي أسس عليها بن علي دولة الاستبداد والفساد.. وهي نفسها التي استعملها اليسار الانتهازي حين تحالف مع حزب التجمع لمواجهة هذه الحركة السياسية ذات الامتداد الشعبي. ولكن غالبية الشعب أثبتت ذكاءها ووعيها ولم تسقط تحت تأثير التشويه الإعلامي الممنهج طوال ربع قرن، وأكدت أنها ترفض النظر لإسلاميي النهضة بنظّارات خصومهم وأعدائهم، ولكن من خلال المعاينة المباشرة لواقعهم وممارستهم وأقوالهم.. فكان أن اكتشفت فيهم كفاءات ذات مصداقية عالية، وأصحاب برنامج إصلاحي طموح ومتفاءل وواقعي، وانفتاحا على مختلف الشرائح الاجتماعية، من محرومين وفقراء، وطبقة وسطى، ونخب.. وهو ما عجز على فعله أي حزب من الأحزاب المنافسة بعد الثورة.. فكان التجاوب الشعبي الباهر والشعور بالطمأنينة والثقة والتفاؤل بقدرة هذا الحزب على تحقيق طموحات وآمال الشعب في بناء هذه الدولة الجديدة.
وأتساءل: هل الامتداد الشعبي لأي حزب سياسي ذنب من الذنوب ومبعث للريبة؟ وهل سعي أنصار حزب سياسي إسلامي للمشاركة الفاعلة في مؤسسات المجتمع المدني يعتبر اختراقا لهذه الجمعيات؟ وكأن هذه الجمعيات مقصورة على أنصار اليسار والعلمانيين والقوميين، فيعتبر وجودهم في هذه الجمعيات بمثابة وجود أهل البيت في بيتهم.
ثم لماذا تذكرت أم زياد هذا الاختراق الإسلامي الآن، وهي التي سكتت عنه لسنوات طويلة حين عمل المحامون والناشطون الإسلاميون في أغلب الجمعيات الحقوقية والمدنية وكان لحضورهم مع الآخرين إسهام كبير في النضال ضد ماكينة الفساد والاستبداد. ولا أظن أن أم زياد تنسى وجود بعض هؤلاء الإسلاميين “المخترقين” للجمعيات الحقوقية، أمثال سمير ديلو، ضمن لجنة المساندة التي تشكلت دفاعا عن زوجها حين اتهم باطلا من قبل نظام بن علي ومورست ضد أسرتها حملة تشويه شديدة سنة 2006.
عقد السياسي التونسي المخضرم:
أم زياد، في تصوري الشخصي، نموذج آخر من نماذج السياسيين التونسيين المخضرمين العاجزين عن فهم الثورة وطبيعة الوعي الفكري والسياسي لدى الجيل التونسي الجديد. وهي كبعض هؤلاء محكومة بجملة من العقد في مواقفها السياسية مثل:
- عقدة التأسيس: حين يرى مؤسسو وزعماء حزب سياسي أنفسهم أنهم يمثلون حصريا “الخط الأصيل”، وأنهم أولى من غيرهم بممارسة دور الحماة والممثلين الشرعيين للإرث السياسي لحزبهم.
- عقدة الانقلاب: حين يرون في انخراط جيل جديد من الشباب ذي خلفية متدينة، في العمل السياسي شكلا من أشكال الانقلاب على “العلمانية” السياسية بالمفهوم الذي يرتضونه للعلمانية. في حين غاب عنهم أن التدين أصبح سمة طاغية في الواقع الشبابي التونسي منذ التسعينات، رغم كل الحصار والتضييق الذي مورس على الظاهرة الدينية في تونس.
- عقدة عدم الثقة في الإسلاميين: وهي معضلة لدى النخبة التونسية المخضرمة، وكأن الإسلاميين ليسوا أهلا للثقة في صدق نواياهم، ومحكوم عليهم دائما بإثبات حسن النوايا، في مقابل آخرين هم أهل الصدق الذين لا يرقى الشك لصفاءهم وإخلاصهم..
- عقدة النرجسية والتذكير بأمجاد الماضي: ومن كلماتها في حوار التونسية، وفي مواطن أخرى “أنا ظُلِمت لأنني متواضعة كثيرا.. وأحيانا ليس جيدا أن نتواضع للناس.. ولم أتحدث عن دوري حيث أنني ساهمت في محاولة إصلاح الوضع.. وتمنيت لو تحدث العيادي عن دوري في كذا وكذا.. واستأت أنهم لم يذكروني حين حصل كذا وكذا”، إلخ.. أعتقد أنها تحتاج للتحفظ قليلا على مثل هذا الكلام، وأن تتذكر بعض ما كانت تقوله سلبا، قبل انتخابات 23 أكتوبر، عن نضالات قيادات النهضة السابقة.
أعود لأقول إن حزب المؤتمر مؤهل لأن يكون حزبا قويا بقاعدة شعبية واسعة.. ولكن بشرط تخلي بعض مؤسسيه وقادته عن العقلية الإقصائية التي لا تؤدي إلا للفرقة والتشتت. وبشرط التعامل البراجماتي مع المشهد السياسي الجديد الذي كرّس النهضة رقما أساسيا في معادلة ما بعد الثورة، كما كانت من قبل.. وبشرط الاقتناع بضرورة وجود دماء شابة وجديدة في المواقع القيادية للعمل السياسي
* كاتب وناشط تونسي مقيم بكندا
قد يطلب من أمثالي واجب التحفظ (وأنا عضو جديد في حركة النهضة) عند الحديث عن مشاكل حزب المؤتمر، كون الخلاف داخليا، وكان أحد مناصري المؤتمر لَمَّح لذلك ولامني في مناسبات سابقة على ذلك في الفايسبوك. ولكن أرى أن الثورة أطلقت الحرية إلى أقصى مداها في التعليق على الشأن السياسي.. وإذا كان من حق السياسي والعضو الحزبي والناشط أن ينتقدوا أداء الأحزاب السياسية المخالفة لهم، فمن باب أولى أن يتحدثوا أيضا عن الأحزاب التي يرونها أقرب لأحزابهم أو رؤاهم السياسية..
فضلا عن ذلك، أرى أن ما يحصل حاليا في المؤتمر يستحق أن يكون “دراسة حالة” (Case Study) جيدة في المشهد السياسي الراهن. وأرجو أن تكتب مستقبلا دراسات يتم فيها تحليل التجربة السياسية للمؤتمر، كما حصل (وربما سيحصل مستقبلا) مع حركة النهضة..
شاهدت مؤخرا حوارات تلفزيونية لعدد من قادة حزب المؤتمر: محمد عبو وعماد الدايمي وعبد الرؤوف العيادي. ولكن الحوار الذي استوقفني أكثر هو حوار قناة التونسية مع المناضلة أم زياد، إحدى مؤسِّسات الحزب…
أرجو ألا تتهمني أم زياد بـ”المجاملة الكاذبة” أو “النفاق” حين أذكّر بتقديري الشديد لها منذ كانت تكتب في جريدة الرأي في الثمانينات.. بل أرى من الصدق والشجاعة الأدبية أن أذكّر بذلك بين يدي نقد شديد في هذا المقال. واحتمال أن يستعمل البعض المدح والتقدير أحيانا لتمرير القدح وتبريره لا يجعل من المدح أمرا مذموما في كل الحالات. كما لا يصح اتهام الجميع بالمجاملة الكاذبة والنفاق وإن كانوا من المخالفين، وأزعم أنني من هؤلاء الصادقين.. ولكن، سأقبل منها لو صنّفت كلامي هنا في فئة كلام “الميليشيات الرقمية”، هذا الوصف الذي استعملته في حوارها وأصبح صفة ملازمة لبعض الناشطين الإسلاميين على الفايسبوك.
ذكرت أم زياد، في حوارها على التونسية، أنها قابلت منصف المرزوقي بعد توليه رئاسة الجمهورية، وفوجئت في معرض كلامها معه برغبته في رؤية عماد الدايمي يقود الحزب في المرحلة الراهنة. وأوردت أم زياد في إطار التعريض بعماد الدايمي كونه صغير السن، وبأنه إسلامي “مندس” على المؤتمر.. واتهمت الإسلاميين بأنهم يعملون دائما على “اختراق” الأحزاب والجمعيات وأن حركة النهضة “لا تحترم الحدود بينها وبين الآخرين”…
عماد الدايمي.. الشاب الصغير والإسلامي المندس
استغربت أن تعيب أم زياد على عماد الدايمي كونه شابا صغير السن.. وكان يفترض أن يحسب هذا الأمر للمؤتمر.. فالثورة التونسية قامت بالشباب أساسا. وكان من الطبيعي أن يتصدر بعض الشباب من ذوي الكفاءة المشهد السياسي بعد الثورة.. ثم هل يعقل أن يوصف رجل في الأربعين بأنه صغير السن في معرض التقليل من كفاءته؟
أرجو أن تنظر أم زياد للأحزاب السياسية في أوروبا وأمريكا الشمالية وستجد أن كثيرا من السياسيين قادوا أحزابا بل حكومات ولمّا يبلغوا الأربعين.. فلعل أم زياد لا تعلم أن زعيم اليسار في اليونان والذي فاز في انتخابات الأسبوع الماضي شاب أصغر من الدايمي، دخل للحزب سنة 2006، وأصبح زعيما له بعد ثلاث سنوات فقط، سنة 2009، وعمره الآن 37 سنة.. وفي بريطانيا، شكل توني بلير الحكومة وعمره 42 سنة.. وفي كيبك أصبح أندريه بواكلار زعيما للحزب الكيبكي وسنّه 41 عاما (أي نفس عمر الدايمي). وتسلم روبار بوراسا رئاسة الحكومة في كيبك وعمره 36 سنة. وفي إسبانيا كان ليون ديجرال زعيما للمعارضة أيام الحرب العالمية الثانية وعمره 29 سنة.. ويمكن سرد أسماء كثيرة أخرى للدلالة على أن “عقدة صغر السن” يعاني منها فقط الشيوخ الذين يرون في الشباب قلة التجربة، ولا يصدّقون احتمال أن يكون فيهم من يملك كفاءات عالية ومقومات قيادية وكاريزمية قد تفوق من هم أكبر منه سنا..
أما الصفة الإسلامية، فيبدو أن أم زياد تراها “تهمة” يجب أن يحذر منها أي عضو في المؤتمر.. وأتساءل: أين كانت هذه السيدة من عضوية الدايمي في المؤتمر طوال السنوات الماضية طالما أن خلفيته الإسلامية أمر مشبوه، ويتعارض مع مبادئ الحزب؟ لماذا صمتت عن عضويته في الحزب، وهو من المؤسسين للحزب؟ ولماذا صمتت حين أصبح عضوا في المكتب السياسي للحزب مكلفا بالإعلام؟ ولماذا اكتشفت خطره بعد الثورة فقط؟ وهل كانت سترى فيه هذا الخطر لو بقي عضوا عاديا أو بقي قياديا صغيرا “لا يتجاوز حدوده”؟
أم زياد ذكرت في حوارها ما يوحي بأنها كانت غير راضية عن وجود شقين في مناضلي المؤتمر: “جماعة السجادة” و”جماعة …” (تورَّعَت عن التصريح بالصفة).. وهذا دليل على أن عقدتها ليست في الدايمي فقط، وإنما تتجاوزه لتشمل جميع من لديهم شبهة تدين في أعضاء الحزب.. وهو ما يكشف حجم الإغراق الإيديولوجي الرافض للإسلاميين في شخصية هذه المناضلة الحقوقية، ويطرح تساؤلات عن صدق دفاعها في الماضي عن حق الإسلاميين في العمل السياسي. وأخشى أن تكون في السابق من المتاجِرات بالدفاع عن الإسلاميين لتلميع الصورة وإظهار الذات بمظهر الحقوقي الديموقراطي، طالما أن الإسلاميين احتفظوا بمسافة عن دائرة الفعل الحقوقي والديموقراطي الذي تعمل هي فيه.
أم زياد اتهمت عماد الدايمي بـ”النفاق السياسي” حين مدحها في حواره التلفزيوني الأخير، وقالت “أكره التنوفيق.. وليبق مجاملاته لي عنده”.. ولكن أليس هذا ينطبق على كلامها أيضا؟ أليس سكوتها عن عضوية عماد الدايمي في المؤتمر، ودفاعها السابق عن حق الإسلاميين في العمل السياسي نوعا من النفاق والتجمل للرأي العام الداخلي والدولي؟
ثم ما العيب في كون السياسي المحترف يغير موقعه من حزب لآخر أثناء مسيرته السياسية؟ كثير من السياسيين في الغرب يتحولون من حزب محافظ لحزب ليبرالي، أو من حزب يساري إلى حزب يميني، ومن اشتراكي لحزب وسطي، إلخ.. وتوجد أمثلة كثيرة على ذلك في الديموقراطيات الغربية، دون أن يؤدي للشور بالتوجس أو الخوف من شبهة التآمر والاختراق.. وفي كيبك مثلا، كان جان شاريه (Jean Charest) زعيما للحزب التقدمي المحافظ الفيديرالي (Parti progressiste-conservateur fédéral) من 1993 إلى 1998، ثم استقال فجأة ليصبح زعيما للحزب الليبرالي في مقاطعة كيبك وهو يرأس حكومة كيبك منذ سنة 2003 بهذه الصفة..
وبالتالي ما العيب في كون الدايمي عضوا سابقا في النهضة، واستقال منذ سنة 1996 أو 1997 (على ما أذكر)، أي قبل تأسيس حزب المؤتمر سنة 2001 بما ينفي عنه شبهة الرغبة في الاختراق والاندساس؟
وما العيب في أن يصبح شخص متدين مثل عماد الدايمي، قياديا في حزب سياسي ديموقراطي أصر على التخلي عن البعد الإيديولوجي في مرجعيته وبرنامجه السياسيين؟ إلا أن يكون ذلك من قبيل ما وصفه القرآن: “وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ”.
موقف أم زياد يوحي بأنها ترى العلمانية على النموذج الفرنسي المعادي والمقصي للدين.. وهو يتناقض مع نمط العلمانية التي يدافع عنها حزب المؤتمر وقياداته الحالية أو المتخلية مثل المرزوقي والعيادي وعبو وغيرهم..
أخطبوط النهضة.. وعقلية الاختراق
حركة النهضة في عيون أم زياد حزب ديني لاديموقراطي، ولا يمكن الوثوق في وعوده الديموقراطية والتزاماته العلنية المكررة كحزب مدني يعمل في إطار القانون والشرعية. وهو حزب يقوم بممارسات سيئة وخطيرة منها السعي لاختراق الأحزاب والجمعيات المدنية والحقوقية، فضلا عن كونه يسعى للهيمنة على الواقع السياسي وفرض نفسه كحزب بديل عن التجمع المخلوع.. وهو حزب رجعي يريد الركوب على الثورة والديموقراطية للتأسيس لحكم ديني ثيوقراطي.
بعبارة أخرى، النهضة، في عيون أم زياد الديموقراطية جدا، “شيطان سياسي” في مقابل ملائكة سياسيين آخرين يملؤون الساحة السياسية في تونس وتتوفر فيهم خصال عالية من الطهر والعفاف في الممارسة السياسية واستعمال الأدوات الشريفة في الديموقراطية.. وهو ما جعلها تصرح بالدعوة لعزل النهضة سياسيا للحيلولة دون تشكيلها للحكومة رغم كونها الفائز الأكبر في انتخابات 23 أكتوبر.
نفس الفزاعة التي أسس عليها بن علي دولة الاستبداد والفساد.. وهي نفسها التي استعملها اليسار الانتهازي حين تحالف مع حزب التجمع لمواجهة هذه الحركة السياسية ذات الامتداد الشعبي. ولكن غالبية الشعب أثبتت ذكاءها ووعيها ولم تسقط تحت تأثير التشويه الإعلامي الممنهج طوال ربع قرن، وأكدت أنها ترفض النظر لإسلاميي النهضة بنظّارات خصومهم وأعدائهم، ولكن من خلال المعاينة المباشرة لواقعهم وممارستهم وأقوالهم.. فكان أن اكتشفت فيهم كفاءات ذات مصداقية عالية، وأصحاب برنامج إصلاحي طموح ومتفاءل وواقعي، وانفتاحا على مختلف الشرائح الاجتماعية، من محرومين وفقراء، وطبقة وسطى، ونخب.. وهو ما عجز على فعله أي حزب من الأحزاب المنافسة بعد الثورة.. فكان التجاوب الشعبي الباهر والشعور بالطمأنينة والثقة والتفاؤل بقدرة هذا الحزب على تحقيق طموحات وآمال الشعب في بناء هذه الدولة الجديدة.
وأتساءل: هل الامتداد الشعبي لأي حزب سياسي ذنب من الذنوب ومبعث للريبة؟ وهل سعي أنصار حزب سياسي إسلامي للمشاركة الفاعلة في مؤسسات المجتمع المدني يعتبر اختراقا لهذه الجمعيات؟ وكأن هذه الجمعيات مقصورة على أنصار اليسار والعلمانيين والقوميين، فيعتبر وجودهم في هذه الجمعيات بمثابة وجود أهل البيت في بيتهم.
ثم لماذا تذكرت أم زياد هذا الاختراق الإسلامي الآن، وهي التي سكتت عنه لسنوات طويلة حين عمل المحامون والناشطون الإسلاميون في أغلب الجمعيات الحقوقية والمدنية وكان لحضورهم مع الآخرين إسهام كبير في النضال ضد ماكينة الفساد والاستبداد. ولا أظن أن أم زياد تنسى وجود بعض هؤلاء الإسلاميين “المخترقين” للجمعيات الحقوقية، أمثال سمير ديلو، ضمن لجنة المساندة التي تشكلت دفاعا عن زوجها حين اتهم باطلا من قبل نظام بن علي ومورست ضد أسرتها حملة تشويه شديدة سنة 2006.
عقد السياسي التونسي المخضرم:
أم زياد، في تصوري الشخصي، نموذج آخر من نماذج السياسيين التونسيين المخضرمين العاجزين عن فهم الثورة وطبيعة الوعي الفكري والسياسي لدى الجيل التونسي الجديد. وهي كبعض هؤلاء محكومة بجملة من العقد في مواقفها السياسية مثل:
- عقدة التأسيس: حين يرى مؤسسو وزعماء حزب سياسي أنفسهم أنهم يمثلون حصريا “الخط الأصيل”، وأنهم أولى من غيرهم بممارسة دور الحماة والممثلين الشرعيين للإرث السياسي لحزبهم.
- عقدة الانقلاب: حين يرون في انخراط جيل جديد من الشباب ذي خلفية متدينة، في العمل السياسي شكلا من أشكال الانقلاب على “العلمانية” السياسية بالمفهوم الذي يرتضونه للعلمانية. في حين غاب عنهم أن التدين أصبح سمة طاغية في الواقع الشبابي التونسي منذ التسعينات، رغم كل الحصار والتضييق الذي مورس على الظاهرة الدينية في تونس.
- عقدة عدم الثقة في الإسلاميين: وهي معضلة لدى النخبة التونسية المخضرمة، وكأن الإسلاميين ليسوا أهلا للثقة في صدق نواياهم، ومحكوم عليهم دائما بإثبات حسن النوايا، في مقابل آخرين هم أهل الصدق الذين لا يرقى الشك لصفاءهم وإخلاصهم..
- عقدة النرجسية والتذكير بأمجاد الماضي: ومن كلماتها في حوار التونسية، وفي مواطن أخرى “أنا ظُلِمت لأنني متواضعة كثيرا.. وأحيانا ليس جيدا أن نتواضع للناس.. ولم أتحدث عن دوري حيث أنني ساهمت في محاولة إصلاح الوضع.. وتمنيت لو تحدث العيادي عن دوري في كذا وكذا.. واستأت أنهم لم يذكروني حين حصل كذا وكذا”، إلخ.. أعتقد أنها تحتاج للتحفظ قليلا على مثل هذا الكلام، وأن تتذكر بعض ما كانت تقوله سلبا، قبل انتخابات 23 أكتوبر، عن نضالات قيادات النهضة السابقة.
أعود لأقول إن حزب المؤتمر مؤهل لأن يكون حزبا قويا بقاعدة شعبية واسعة.. ولكن بشرط تخلي بعض مؤسسيه وقادته عن العقلية الإقصائية التي لا تؤدي إلا للفرقة والتشتت. وبشرط التعامل البراجماتي مع المشهد السياسي الجديد الذي كرّس النهضة رقما أساسيا في معادلة ما بعد الثورة، كما كانت من قبل.. وبشرط الاقتناع بضرورة وجود دماء شابة وجديدة في المواقع القيادية للعمل السياسي
* كاتب وناشط تونسي مقيم بكندا
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire