4/26/2012

(رأي-تحرير) | المسّ بالاعلام العمومي جريمة في حقّ الشعب ونسف للديمقراطيّة

(رأي-تحرير) | المسّ بالاعلام العمومي جريمة في حقّ الشعب ونسف للديمقراطيّة:
المشهد التونسي – مقالات رأي أعضاء هيئة التحرير – غسّان بن خليفة

بعد أسابيع من التلميحات، ثمّ التهديدات، من قياديي حركة النهضة بخصخصة مؤسّسة التلفزة الوطنية، خرج سمير ديلو وزير حقوق الانسان لينفي نيّة الحكومة القيام بذلك. الاّ انّه لا يبدو انّ الجدال حول الموضوع مرشّح للتوقّف قريبًا.

هذا التصرّف من حركة النهضة يُذكّر الى حدّ كبير بما جرى في قضيّة ادراج الشريعة في الدستور: تلميحات ومطالبات امتدّت أسابيعا قبل ان يقرّر الغنّوشي الادلاء بدلوه وقبل ان تعقد الهيئة التأسيسية تصويتًا أدّى الى “تمسّك الحركة بالفصل الأوّل من الدستور القديم”؛ أي تمسّكها بما كانت وقّعت عليه سابقًا في حركة 18 أكتوبر!  هذا التصرّف قد يأوّله البعض على أنّه مناورة مقصودة من الحركة لشغل الرأي العام بقضايا ثانوية تغطّي على القضايا الرئيسيّة التي لا ترغب الحركة في اثارتها مثل : قضايا محاسبة قتلة الشهداء، ملفّ الجرحى، تطهير الوزارات الحسّاسة كالداخلية والعدل، الابقاء على بعض رموز “النظام البائد” أو اعادتهم الى مواقع هامّة رغم خطاب اعلامي مناقض تمامًا والخ. لكن في ظلّ صعوبة اثبات ما يجري في كواليس قيادة الحركة، فانّ الحدّ الموضوعي الأدنى هو وصف هذه الممارسة بأنّها تنمّ عن قلّة مسؤولية سياسيّة وعن استخفاف بأعصاب الرأي العام وخاصّة بمكتسبات الشعب؛ وهذا هو الموضوع الأخطر.
في قضية التلفزة الوطنية، مثلما في قضايا أخرى، اختارت حركة النهضة “الحلّ الأسهل”. فعوض المضيّ جدّيًا في مسار التطهير والاصلاح تفضّل الحركة التخلّص من هذا العبئ عبر خصخصته. المشكلة انّ ما يُعتبر “حلّا سهلا” بالنسبة  للمصالح السياسية للحركة هو جريمة في حقّ الشعب ونسف للديمقراطية (وهنا أزن كلماتي).

كيف ذلك؟

باختيارها خصخصة الاعلام العمومي (والتلفزة الوطنيّة من أهمّ مؤسّساته قطعا) تقوم النهضة برهن حقّ التونسيين في المعلومة بشكل تامّ بين أيدي رؤوس الأموال. إذ لن يكتفي وقتها الشعب بما تمارسه عليه  بعض الاذاعات والتلفزات الخاصّة  – تحديدا “موزاييك” و”نسمة” و”حنّبعل “- من تضليل وانزياح تامّ عن المعايير المهنيّة الدنيا في العمل الاعلامي.  بل هو سيُحرَم أيضًا من وسائل الاعلام الوحيدة التي   يمكنه ان يطالبها بالموضوعيّة والاستقلالية  في المادّة الاخبارية وبمستوى راق في بقيّة البرامج.
كلّ البلدان الديمقراطية العريقة تقريبا بالعالم تمتلك وسائل اعلام عموميّة (طبعا لا أعتبر الولايات المتحدّة دولة ديمقراطية نظرا لهيمنة اللوبيات ورؤوس الأموال على الحياة السياسية فيها). وفي جلّها  (بما في ذلك بريطانيا التي من المفترض انّ الغنّوشي يعرفها جيّدًا) تقدمّ وسائل الاعلام العمومية المادّة الأرقى من الناحية الخبريّة عندما تتوفّر لها الامكانيات المادّية والقانونية المناسبة.  ففي كندا مثلا، تٌعتبر مؤسّسة “راديو كندا” (التي تضمّ قنوات تلفزية فضلا عن الاذاعات) أفضل مؤسّسة اعلامية لجهة التغطية الاخبارية المتوازنة، بل وتتميّز بجودة “صحافة التقصّي (أو التحقيق)” التي تفضح بشكل شبه أسبوعي ملفّات فساد ترتكبها الحكومة أو مقرّبين منها بغضّ النظر عن اللون السياسي للفريق الحاكم (وحتّى المعارضة أيضا). ولهذا السبب على الأرجح يحاول المحافظون الذين يحكمون حاليًا الحدّ من ميزانيتها، الأمر الذي يلاقي معارضة شديدة من الرأي العام والمجتمع المدني. ويمكن ذكر أمثلة كثيرة عن تميّز الاعلام العمومي في بلدان مثل فرنسا (رغم محاولات ساركوزي السيطرة عليه) وسويسرا وغيرها.

والأكيد أنّه في كلّ هذه الأمثلة يتفوّق الاعلام العمومي على نظيره الخاصّ  في الجانب الاخباري ويحفّزه على منافسته.  لكن الثاني لا يسعى دائمًا الى ذلك. فعلى عكس الأوّل يبقى هاجسه الأساسي الربح المادّي واستقطاب أكبر قدر من الاشهار التجاري. وبالتالي فهو قد لا يبالي كثيرا بجودة مضمون برامجه الاخباريّة، بل وقد يتعمّد تزييف بعض الوقائع أو التعتيم على بعض الأحداث لغايات سياسية أو ايديولوجية تتعلّق بخلفيّة مالك وسيلة الاعلام أو لعدم اغضاب من ينشرون اشهارات في وسيلته. كما يحصل ان يتعامل في بعض القضايا مع سياسة حكومة بلاده بشكل امّا نقدي تماما أو موال تمامًا (الولايات المتحدة مثال صارخ على ذلك). لهذا السبب تعتمد بعض الدول الديمقراطية هيئات تعديلية لمحاسبة وسائل الاعلام العمومية والخاصّة على مضمون موادها الاخبارية ولمراقبة مدى التزامها المعايير المهنيّة والايتقيّة (أخلاقيات المهنة).

وتكون الخطورة أكبر في بلد مثل تونس، حيث مازال على رأس أغلب أكبر القنوات التلفزية الخاصّة أشخاص توّرطوا مع الديكتاتورية  وتحوم شكوك حول ثرواتهم ولم يُعرف عنهم يومًا احترامهم للمعايير المهنيّة للصحافة.   فعلى سبيل الذكر لا الحصر أقرّ نبيل القروري، صاحب “نسمة” في مقابلة أجريتها معه قبل حوالي عام أنّه يعتبر نفسه “حرًا في اختيار من يستضيف او من لا يستضيف على قناته” وأنّه لا يعتبر نفسه ملزمًا باحترام المعايير المهنيّة المعروفة لأنّ الرجل، كما قال بنفسه، يشبّه وسيلة الاعلام بـ”مصنع شوينغوم (العلكة الممضوغة)”. هذه فكرة بسيطة عن المستوى المخزي لعقلية بعض رجال، ونساء، الأعمال الذين يملكون وسائل اعلام تصوغ بشكل رئيسي الوعي السياسي لجزء كبير من الرأي العام في بلادنا. ولهذا السبب تحديدًا يجب على الحكومة ان تسارع الى تفعيل المرسومين  115 و116 الذين اقترحتهما الهيئة الوطنية لاصلاح الاعلام برئاسة الصحفي والمناضل القدير والنزيه كمال العبيدي. فهذين المرسومين يتضمنّان أرقى المعايير المتعارف عليها دوليًا لتعديل الاعلام ومراقبة جودة مضمونه. ولم يكن من باب الصدفة أنّهما لقيا مماطلة وتعديلا من حكومة السبسي (وهو بدوره كان ومازال عدوًا للاعلام الحرّ النزيه) ومعارضة شرسة من أباطرة الاعلام الخاصّ الفاسد مثل قناة “نسمة” و”حنّبعل” وموقع بيزنيسنيوز ونقابة مديري المؤسّسات الاعلاميّة.

نفس وسائل الاعلام التي تعمّد السكوت عنها وعدم تطهيرها بعد 14 جانفي قائد السبسي والشابّي (سارع الى اعادة فتح قناة حنّبعل رغم ترويجها لشائعات دون ايّ محاسبة لاصحابها) وغيره من قادة اليمين الحداثوي الذين صاروا اليوم مدافعين شرسين عن حرّية الاعلام واستقلاليته. والحقّ أنّهم لا يهتمّون لا باستقلالية الاعلام (اذ أبقوا على رموز الفساد فيه) ولا بالدفاع عن حرّيته، والاّ لمّا صمتوا عن قمع الصحفيين عندما كانوا في الحكم أو  موالين له.

لكن عوضًا عن انتهاج سياسة تليق فعلا بـ”حكومة ثورة”، نجد حركة النهضة (وحليفيها الذليليْن في الترويكا) تسكت بدورها عن تجاوزات الاعلام الخاصّ وتستهدف الاعلام العمومي. وهذا الاستهداف لا يقتصر على التلفزة الوطنية. بل رأينا أيضا كيف غطّت الحكومة على الاستيلاء على ادارة قناة الزيتونة وتركها تحت سيطرة الشيخ المشفر الذي طالما مدح بن علي وكان أمام ظلمه “شيطانًا أخرس”.  ايضا جريدتي لابراس والصحافة التي عينت على رأسيهما شخصين معروفين بتورطهما في الفساد السياسي في عهد بن علي. الأمر نفسه في وكالة تونس افريقيا للأنباء التي تشهد، اضافة الى تعيين شخص خدم الديكتاتورية، تخفيضًا للميزانية المخصّصة لها. وهو ما اضطرّ الأخيرة، في محاولة لتعويض النقص الحاصل والمحافظة على استقلاليتها (كما يقول بعض العاملين فيها)، الى بيع جزء من برقياتها بمقابل. وهو ما يعني ببساطة حرمان جزء هامّ من مستعملي الانترنات من المواطنين العاديين ومواقع صحافة المواطنة (مثلما هو حال موقعنا ’المشهد التونسي’) من أحد أهمّ مصادر المعلومات المجانيّة ذات الجودة المحترمة نسبيًا.

المشهد لا يحتاج غوصًا في مكنونات نفوس قادة النهضة، بل هو واضح الاّ لمن يرفض رؤيته على حقيقته. الحركة التي تقود “حكومة الثورة” تجابه الحرب الاعلامية (المخزية أيضا) التي يشنّها عليها خصومها من اليمين الحداثي وبقايا نظام بن علي في الاعلام الخاصّ (نسمة والمغرب والجريدة وبيزنيس نيوز أبرز الأمثلة) بعقليّة حزبويّة ضيّقة. بدأ ذلك بمحاولة استمالة بعض الرموز الاعلامية الفاسدة ووضعها على رأس المؤسّسات الاعلامية العموميّة. ثمّ بهرسلة العاملين بالتلفزة الوطنيّة (بشكل عامّ دون تمييز بين الصالح والطالح) وثالثًا بتمويل، او الدفع نحو، انشاء وسائل اعلام لا تقلّ انحيازًا وقلّة مهنيّة  (مثل الفجر والضمير وقناة تواصل وبناء نيوز دون ان ننسى بعض مواقع اعلام المواطنة وصفحات الفيس بوك) في انتظار بعث قنوات فضائية منافسة.  بعبارة أخرى النهضة قرّرت ان تحارب خصومها بنفس أساليبهم وأدواتهم غير الاخلاقية عوض ان تفتح ملفّ تطهير الاعلام من الفاسدين واصلاحه. وأبرز دليلين على ذلك أنّها ترفض باصرار عجيب تفعيل المرسومين المذكورين أعلاه وأنّها تمتنع عن فتح ملفّات البوليس السياسي التي تحتوي بلا شكّ قائمات الصحفيين المخبرين او الذين كانوا يتلقون تعليمات.

وهنا لا يمكن الاكتفاء بنقد النهضة. بل انّ الموضوعية والنزاهة تقتضيان نقد مكتب النقابة الوطنية للصحفيين الذي تخلّى عن قراره اعداد “القائمة السوداء”. الأخير فضّل على مايبدو بدوره “الحلّ الأسهل”، بالقائه الكرة في ملعب الحكومة عبر تعلّله بامتناع الأخيرة عن كشف أسماء الصحفيين المتورطين في عهد بن علي. لكن ذلك ليس سببا كافيًا لمنع النقابة من ان تتخذ اجراءات تأدبيبة حيال الصحفيين المعروفين بدورهم في عهد بن علي،  وكثيرون منهم مازالوا متواجدين في مواقع بارزة بمؤسّسات اعلامية عمومية وخاصّة. كما انّ النقابة خيّرت على ما يبدو “التطبيع” مع مالكي مؤسّسات اعلامية متورطة في تخريب القطاع الاعلامي سابقا وحاضرًا.

الاّ انّ الجزء الأكبر من المسؤولية يجب ان يُلقى دائمًا على صاحب القرار السياسي، أي الحكومة. فالأخيرة تًثبت عبر استهدافها للاعلام العمومي أنّها تستخفّ بمصالح المواطنين، لا سيما البسطاء منهم، وبحقّهم الأساسي في معلومة مجانية وذات جودة مضمونة. وهي بذلك تفضح مرّة أخرى افتقادها للحسّ الاجتماعي واستسهالها التفريط في مؤسّسات القطاع العام رغم أنّها انتُخبَت اثر ثورة أشعلها الفقراء وضحّوا فيها بأرواحهم. وعلاوة على ذلك هي بصدد نسف أحد أهمّ أسس ايّ ديمقراطية حقيقيّة: الاعلام العمومي الذي يضمن تكافؤ الفرص ووصول المعلومة للجميع ويكون “كلب الحراسة” الذي يحمي الديمقراطية من تعسّف رجال السياسة او المال أو غيرهم.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire